الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وفي قراءة عبد الله بن مسعود: {هل لا تسجدوا} بالفوقية، وفي قراءة أبيّ: {أَلا تَسْجُدُواْ} بالفوقية أيضًا {الذي يُخْرِجُ الخبء فِي السموات والأرض} أي يظهر ما هو مخبوء ومخفيّ فيهما، يقال: خبأت الشيء أخبؤه خبأ والخبء ما خبأته.قال الزجاج: جاء في التفسير أن الخبء هاهنا بمعنى: القطر من السماء والنبات من الأرض.وقيل: خبء الأرض: كنوزها ونباتها.وقال قتادة: الخبء: السرّ.قال النحاس: أي: ما غاب في السماوات والأرض.وقرأ أبيّ وعيسى بن عمر: {الخب} بفتح الباء من غير همز تخفيفًا، وقرأ عبد الله وعكرمة ومالك بن دينار: {الخبا} بالألف.قال أبو حاتم: وهذا لا يجوز في العربية.وردّ عليه بأن سيبويه حكى عن العرب: أن الألف تبدل من الهمزة إذا كان قبلها ساكن.وفي قراءة عبد الله: {يخرج الخب من السموات والأرض}.قال الفراء: ومن وفي يتعاقبان، والموصول يجوز أن يكون في محل جرّ نعتًا لله سبحانه، أو بدلًا منه، أو بيانًا له، ويجوز أن يكون في محل نصب على المدح، ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف.وجملة: {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} معطوفة على يخرج، قرأ الجمهور بالتحتية في الفعلين، وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر وحفص والكسائي بالفوقية للخطاب، أما القراءة الأولى فلكون الضمائر المتقدّمة ضمائر غيبة، وأما القراءة الثانية: فلكون قراءة الزهري والكسائي فيها الأمر بالسجود والخطاب لهم بذلك، فهذا عندهم من تمام ذلك الخطاب.والمعنى: أن الله سبحانه يخرج ما في هذا العالم الإنساني من الخفاء بعلمه له كما يخرج ما خفي في السماوات والأرض.ثم بعد ما وصف الربّ سبحانه بما تقدّم مما يدلّ على عظيم قدرته وجليل سلطانه ووجوب توحيده، وتخصيصه بالعبادة قال: {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش العظيم} قرأ الجمهور {العظيم} بالجرّ نعتًا للعرش، وقرأ ابن محيصن بالرفع نعتًا للربّ، وخصّ العرش بالذكر؛ لأنه أعظم المخلوقات كما ثبت ذلك في المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.وقد أخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن عبد العزيز؛ أنه كتب: إن الله لم ينعم على عبد نعمة، فحمد الله عليها إلاّ كان حمده أفضل من نعمته لو كنت لا تعرف ذلك إلاّ في كتاب الله المنزل.قال الله عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودَ وسليمان عِلْمًا وَقَالاَ الحمد لِلَّهِ الذي فَضَّلَنَا على كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ المؤمنين} وأي نعمة أفضل مما أعطى داود وسليمان؟ أقول: ليس في الآية ما يدلّ على ما فهمه رحمه الله، والذي تدلّ عليه أنهما حمدا الله سبحانه على ما فضلهما به من النعم، فمن أين تدلّ على أن حمده أفضل من نعمته؟ وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وَوَرِثَ سليمان دَاوُود} قال: ورثه نبوّته، وملكه وعلمه.وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد في الزهد، وابن أبي حاتم عن أبي الصديق الناجي قال: خرج سليمان بن داود يستسقي بالناس، فمرّ على نملة مستلقية على قفاها رافعة قوائمها إلى السماء، وهي تقول: اللهم إنا خلق من خلقك ليس بنا غنى عن رزقك، فإما أن تسقينا وإما أن تهلكنا، فقال سليمان للناس: ارجعوا، فقد سقيتم بدعوة غيركم.وأخرج الحاكم في المستدرك عن جعفر بن محمد قال: أعطي سليمان ملك مشارق الأرض ومغاربها، فملك سليمان سبعمائة سنة وستة أشهر، ملك أهل الدنيا كلهم من الجن والإنس والدواب والطير والسباع، وأعطي كل شيء، ومنطق كل شيء، وفي زمانه صنعت الصنائع المعجبة، حتى إذا أراد الله أن يقبضه إليه أوحى إليه أن يستودع علم الله وحكمته أخاه، وولد داود كانوا أربعمائة وثمانين رجلًا أنبياء بلا رسالة.قال الذهبي: هذا باطل، وقد رويت قصص في عظم ملك سليمان لا تطيب النفس بذكر شيء منها، فالإمساك عن ذكرها أولى.وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} قال: يدفعون.وأخرج ابن جرير عنه في قوله: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} قال: جعل لكل صنف وزعة تردّ أولاها على أخراها لئلا تتقدّمه في السير كما تصنع الملوك.وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {أَوْزِعْنِي} قال: ألهمني.وأخرج عبد بن حميد عن الحسن مثله.وأخرج ابن أبي شيبة وعبد ابن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس؛ أنه سئل: كيف تفقد سليمان الهدهد من بين الطير؟ قال: إن سليمان نزل منزلًا، فلم يدر ما بعد الماء، وكان الهدهد يدلّ سليمان على الماء، فأراد أن يسأله عنه، ففقده، قيل: كيف ذاك والهدهد ينصب له الفخ يلقى عليه التراب، ويضع له الصبي الحبالة، فيغيبها، فيصيده؟ فقال: إذا جاء القضاء ذهب البصر.وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: {لأعَذّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا} قال: أنتف ريشه كله، وروي نحو هذا عن جماعة من التابعين، وروى ابن أبي حاتم عن الحسن قال: كان اسم هدهد سليمان: غبر.وأقول: من أين جاء علم هذا للحسن رحمه الله، وهكذا ما رواه عنه ابن عساكر أن اسم النملة: حرس، وأنها من قبيلة يقال لها: بنو الشيصان، وأنها كانت عرجاء، وكانت بقدر الذئب، وهو رحمه الله أورع الناس عن نقل الكذب، ونحن نعلم أنه لم يصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء، ونعلم أنه ليس للحسن إسناد متصل بسليمان، أو بأحد من أصحابه، فهذا العلم مأخوذ من أهل الكتاب، وقد أمرنا: أن لا نصدّقهم، ولا نكذبهم، فإن ترخص مترخص بالرواية عنهم لمثل ما روى: «حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» فليس ذلك فيما يتعلق بتفسير كتاب الله سبحانه بلا شك، بل فيما يذكر عنهم من القصص الواقعة لهم.وقد كرّرنا التنبيه على مثل هذا عند عروض ذكر التفاسير الغريبة.وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {أَوْ لَيَأْتِيَنّي بسلطان مُّبِينٍ} قال: خبر الحقّ الصدق البين.وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عكرمة قال: قال ابن عباس: كلّ سلطان في القرآن حجة، وذكر هذه الآية، ثم قال: وأيّ سلطان كان للهدهد؟ يعني: أن المراد بالسلطان: الحجة لا السلطان الذي هو الملك.وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} قال: اطلعت على ما لم تطلع عليه.وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضًا: {وَجِئْتُكَ مِن سَبَأٍ} قال: سبأ بأرض اليمن، يقال لها: مأرب بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ليالٍ {بِنَبَإٍ يَقِينٍ} قال: بخبر حقّ.وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عنه أيضًا: {إِنّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ} قال: كان اسمها بلقيس بنت ذي شيرة، وكانت صلباء شعراء.وروى عن الحسن وقتادة وزهير بن محمد أنها بلقيس بنت شراحيل، وعن ابن جريج بنت ذي شرح.وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ في العظمة، وابن مردويه وابن عساكر عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إحدى أبوي بلقيس كان جنيًا» وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} قال: سرير كريم من ذهب وقوائمه من جوهر ولؤلؤ حسن الصنعة غالي الثمن.وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: {يُخْرِجُ الخبء} قال: يعلم كلّ خبيئة في السماء والأرض. اهـ.
.فوائد لغوية وإعرابية: قال السمين:قوله: {مَا لِيَ لاَ أَرَى الهدهد}.هذا استفهامُ توقيفٍ، ولا حاجةَ إلى ادِّعاء القَلْب، وأنَّ الأصلَ: ما للهدهد لا أراه؟ إذ المعنى قويٌّ دونه. والهُدْهُدُ معروفٌ. وتصغيره على هُدَيْهِد وهو القياس. وزعم بعضُ النحويين أنه تُقْلَبُ ياءُ تصغيره ألفًا، فيقال: هُداهِد. وأنشد:كما قالوا دُوابَّة وشُوابَّة، في: دُوَيْبَّة وشُوَيْبَّة. ورَدَّه بعضُهم: بأن الهُداهِد الحَمامُ، الكثيرُ ترجيعِ الصوتِ. تزعُمُ العربُ أن جارحًا في زمان الطُّوفانِ، اخْتَطَفَ فرخَ حمامةٍ تسمَّى الهديل. قالوا: فكلُّ حمامةٍ تبكي فإنما تبكي على الهديل.قوله: {أَمْ كَانَ} هذه {أم} المنقطعةُ وقد تقدَّم الكلامُ فيها. وقال ابن عطية: قوله: {ما لي لا أرى الهدهد} مَقْصَدُ الكلامِ: الهُدْهُدُ غاب، ولكنه أَخَذَ اللازمَ عن مُغَيَّبِه: وهو أَنْ لا يَراه، فاستفهم على جهةِ التوقُّفِ عن اللازمِ، وهذا ضَرْبٌ من الإِيجاز. والاستفهامُ الذي في قوله: {مالي} نابَ منابَ الألفِ التي تحتاجُها {أم}. قال الشيخ: فظاهرُ كلامِه أنَّ أم متصلةٌ، وأن الاستفهامَ الذي في قوله: {ما لي} ناب منابَ ألفِ الاستفهام. فمعناه: أغاب عني الآن فلم أَرَهُ حال التفقُّد أم كان مِمَّنْ غابَ قبلُ، ولم أَشْعُرْ بغَيْبَتِه؟. قلت: لا يُظَّنُّ بأبي محمد ذلك، فإنه لا يَجْهَلُ أنَّ شَرْطَ المتصلةِ تَقَدُّمُ همزةِ الاستفهامِ أو التسويةِ لا مطلقُ الاستفهامِ.{لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)}.قوله: {عَذَابًا} أي: تَعْذِيبًا، فهو اسمُ مصدرٍ أو مصدرٌ على حَذْفِ الزوائد ك {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتًا} [نوح: 17]. وقد كتبوا {أو لأَاذْبَحَنَّه} بزيادةِ ألفٍ بين لامِ ألفٍ والذال. ولا يجوز أن يُقرأ بها. وهذا كما تقدم أنهم كتبوا {ولأَاوْضَعوا خلالَكم} بزيادة ألف بين لام ألف والواو.قوله: {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي} قرأ ابنُ كثيرٍ بنون التوكيد المشددة، بعدها نونُ الوقايةِ. وهذا هو الأصلُ واتَّبع مع ذلك رَسْمَ مصحفِه. والباقون بنونٍ مشدَّدَةٍ فقط. الأظهرُ أنها نونُ التوكيدِ الشديدةِ، تُوُصِّل بكسرِها لياءِ المتكلم. وقيل بل هي نونُ التوكيدِ الخفيفةِ أُدْغِمَتْ في نونِ الوقايةِ. وليس بشيءٍ لمخالَفَةِ الفعلين قبلَه. وعيسى بن عمر بنونٍ مشددةٍ مفتوحة لم يَصِلْها بالياء.قوله: {فَمَكَثَ} قرأ عاصم بفتحِ الكافِ. والباقون بضمِّها. وهما لغتان. إلاَّ أنَّ الفتحَ أشهرُ، ولذلك جاءت الصفة على ماكِث دون مَكِيْث. واعْتُذِر عنه بأنَّ فاعِلًا قد جاء لفَعُل بالضمِّ نحو: حَمُض فهو حامِض، وخَثُرَ فهو خاثِرٌ، وفَرُهَ فهو فارِهٌ.قوله: {غَيْرَ بَعِيدٍ} يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً للمصدرِ أي: مُكْثًا غيرَ بعيدٍ، وللزمان أي: زمانًا غيرَ بعيدٍ، وللمكان أي: مكانًا غيرَ بعيدٍ. والظاهرُ أنَّ الضمير في {مكث} للهُدْهُدِ. وقيل: لسليمان عليه السلام.قوله: {مِن سَبَإٍ} قرأ البَزِّيُّ وأبو عمروٍ بفتحِ الهمزةِ، جعلاه اسمًا للقبيلة، أو البُقْعَةِ، فَمَنَعاه من الصرفِ للعَلَمِيَّةِ والتأنيث. وعليه قولُه: وقرأ قنبل بسكونِ الهمزةِ، كأنه نوى الوقفَ وأجرى الوَصْلَ مُجْراه. والباقون بالجَرِّ والتنوينِ، جعلوه اسمًا للحَيِّ أو المكانِ. وعليه قولُه: وهذا الخلافُ جارٍ بعينِه في سورة سَبَأ. وفي قوله: {مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ} فيه من البديع: التجانُسُ وهو تَجْنيسُ التصريفِ. وهو عبارةٌ عن انفرادِ كلِّ كلمةٍ من الكلمتين عن الأخرى بحرفٍ كهذه الآيةِ. ومثلُه: {تَفْرَحُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر: 75] وفي الحديث: «الخيلُ مَعْقُوْدٌ بنواصِيها الخيرُ».وقال آخر: وقال الزمخشري: وقوله: {مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ} مِنْ جنسِ الكلامِ الذي سَمَّاه المُحْدَثون بالبدِيع. وهو من محاسنِ الكلامِ الذي يتعلَّقُ باللفظِ، بشرطِ أَنْ يجيْءَ مطبوعًا، أو يصنَعه عالمٌ بجَوْهَرِ الكلامِ، يَحْفَظُ معه صحةَ المعنى وسَدادَه، ولقد جاء هنا زائدًا على الصحةِ فَحَسُنَ وبَدُعَ لفظًا ومعنىً. ألا ترى أنه لو وُضِع مكان {بنَبَأ} بخبر لكان المعنى صحيحًا، وهو كما جاء أصَحُّ؛ لِما في النبأ من الزيادة التي يطابِقُها وصفُ الحال. يريد بالزيادة: أنَّ النبأ أخصُّ من الخبرِ؛ لأنه لا يُقال إلاَّ فيما له شَأْنٌ من الأخبارِ بخلافِ الخبرِ فإنه يُطْلَقُ على ماله شَأْنٌ، وعلى ما لا شأنَ له، فكلُّ نبأ خبرٌ مِنْ غيرِ عكسٍ. وبعضُهم يُعَبِّرُ عن نحو: {مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ} في علم البديع بالتَّرْدِيد. قاله صاحب التحرير. وقال غيرُه: إنَّ الترِديدَ عبارةٌ عن رَدِّ أعجاز البيوت على صدورِها، أو رَدِّ كلمةٍ من النصفِ الأولِ إلى النصف الثاني. فمثالُ الأولِ قولُه: ومثالُ الثاني قولُه:
|